فصل: من فوائد الثعلبي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الزمخشري في الآية:

قال رحمه الله:
{واتبعوا} أي نبذوا كتاب الله واتبعوا {مَا تَتْلُواْ الشياطين} يعني واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها {على مُلْكِ سليمان} أي على عهد ملكه وفي زمانه.
وذلك أنّ الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دوّنوها في كتب يقرؤنها ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم، وبه تسخر الأنس والجن والريح التي تجري بأمره {وَمَا كَفَرَ سليمان} تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به، وسماه كفرًا {ولكن الشياطين} هم الذين {كَفَرُواْ} باستعمال السحر وتدوينه {يُعَلّمُونَ الناس السحر} يقصدون به إغواءهم وإضلالهم {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين} عطف على السحر، أي ويعلمونهم ما أنزل على الملكين.
وقيل: هو عطف على ما تتلو، أي واتبعوا ما أنزل.
{هاروت وماروت} عطف بيان للملكين علمان لهما، والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله للناس.
من تعلمه منهم وعمل به كان كافرًا، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنًا:
عَرَفْتُ الشَّرَّ لاَ لَلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيهِ

كما ابتلى قوم طالوت بالنهر، {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} [البقرة: 249].
وقرأ الحسن {على الملكين} بكسر اللام، على أنّ المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل.
وما يعلم الملكان أحدًا حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي ابتلاء واختبار من الله {فَلاَ تَكْفُرْ} فلا تتعلم معتقدًا أنه حق فتكفر {فَيَتَعَلَّمُونَ} الضمير لما دلّ عليه من أحد، أي فيتعلم الناس من الملكين {مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ} أي علم السحر الذي يكون سببًا في التفريق بين الزوجين من حيلة وتمويه، كالنفث في العقد، ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز والخلاف ابتلاء منه، لا أنّ السحر له أثر في نفسه بدليل قوله تعالى: {وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} لأنه ربما أحدث الله عنده فعلًا من أفعاله وربما لم يحدث {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} لأنهم يقصدون به الشر.
وفيه أن اجتنابه أصلح كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجرّ إلى الغواية.
ولقد علم هؤلاء اليهود أن من اشتراه أي استبدل ما تتلو الشياطين من كتاب الله {مَالَهُ في الاخرة مِنْ خلاق} من نصيب {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} أي باعوها.
وقرأ الحسن: {الشياطون}.
وعن بعض العرب: بستان فلان حوله بساتون.
وقد ذكر وجهه فيما بعد.
وقرأ الزهري {هاروتُ وماروتُ} بالرفع على: هما هاروت وماروت.
وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا.
وقرأ طلحة {وما يعلمان} من أعلم، وقرئ {بين المرء} بضم الميم وكسرها مع الهمز.
والمرّ بالتشديد على تقدير التخفيف والوقف، كقولهم: فرج، وإجراء الوصل مجرى الوقف.
وقرأ الأعمش: {وما هم بضاريّ}، بطرح النون والإضافة إلى أحد والفضل بينهما بالظرف، فإن قلت: كيف يضاف إلى أحد وهو مجرور بمن، قلت: جعل الجار جزءًا من المجرور.
فإن قلت: كيف أثبت لهم العلم أولًا في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ} على سبيل التوكيد القسمي ثم نفاه عنهم في قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}؟
قلت: معناه لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه. اهـ.

.من فوائد الثعلبي في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَاتَّبَعُوا} يعني اليهود.
{مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} أي ما تلت الشياطين.
كقول الشّاعر:
فإذا مررت بقبره فاعقر به ** كؤم الحجان وكلّ طرف سالح

وانضح جوانب قبره بدمائها ** فلقد بكوه أخادم وذبائح

وحكي عن الحسين بن الفضل إنّه سئل عن هذه الآية فقال: هو مختصر مضمر تقديره واتبعوا ما كانت تتلوا الشياطين أي تقرأه.
قال ابن عبّاس: يتبع ويعمل به.
عطاء وأبو عبيدة: يحدّث ويتكلم به.
يمان: ترويه.
وقرأ الحسن: الشياطون بالواو في موضع الرفع في كل القرآن.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا حامد الخارزنجي يقول: وسئل عن قراءة الحسن؟
قال: هو فن وحسن عند أكثر أهل الأدب.
غير أن الأصمعي زعّم إنّه سمع أعرابيًا يقول: بستان فلان حوله بساتون.
{عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي في ملكه وعهده كقول أبي النّجم:
فهي على الأفق كعين الأحول

أي في الأفق.
والملك تمام القدرة واستحكامها.
قال... الزجاج: في قصّة الآية هي أنّ الشياطين كتبوا السّحر والنيرنجات على لسان آصف. هذا ما علّم آصف ابن برخيا سليمان الملك ثمّ وضعوها تحت مصلاه حين نزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان فلمّا مات استخرجوها من تحت مصلاّه.
وقالوا النّاس: إنّما ملككم سليمان بهذا فتعلّموه فأمّا علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان وإنّ كان هذا علمه لقد هلك سليمان.
وأمّا السفلة فقالوا: هذا علم سليمان فأقبلوا على تعلّمه ورفضوا كتب أنبياءهم وفشت الملامة لسليمان فلم تزل هذه حالهم حتّى بعث الله تعالى محمّدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عذر سليمان على لسانه وأظهر براءته عمّا رُمي به فقالوا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} الآية. هذا قول الكعبي.
وقال السّدي: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد السّمع فيستمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما سمعوا كذبًا وزورًا في كلّ سبعين كلمة سبعين كلمة ويخبرونهم بذلك فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني اسرائيل أن الجن تعلم الغيب فبعث في النّاس فجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيّه وقال: لا أسمع أحدًا يقول إنّ الشياطين تعلم الغيب إلاّ ضربت عنقه فلمّا مات سليمان وذهب العلماء الّذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثّل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفرًا من بني إسرائيل فقال: هل أدلّكم على كنز لا ينفذ أبدًا.
قالوا: نعم. قال: فأحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وقام ناحية وقالوا: أدُن. فقال: لا ولكن هاهنا فان لم تجدوه فاقتلوني وذلك إنّهم لم يكن أحدٌ من الشياطين يدنو من الكرسي إلاّ احترق فحفروا فوجدوا تلك الكتب فلمّا أخرجوها. قال الشيطان: إنّ سليمان كان يضبط الجنّ والأنس والطيّر بهذا ثمّ طار الشيطان وذهب وفشا في النّاس أنّ سليمان كان ساحرًا فاتّخذ بنو إسرائيل تلك الكتب ولذلك فكثير ما يوجد السحر في اليهود فلمّا جاء محمّد صلى الله عليه وسلم خاصمه اليهود بها فبرأ الله تعالى سليمان من ذلك وأنزل هذه الآية.
وقال عكرمة: كان سليمانج لا يصبح يومًا إلاّ نبتت في محرابه في بيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟
فتقول الشجرة: إسمي كذا، فيقول: لأيّ داء أنتِ؟
فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع وترفع في الخزانة وتغرس منها في البساتين حتّى بعثت الخرنوبة الشّامية فقال لها: ما أنت؟
قالت أنا الخرنوبة. قال: لأي شيء نبتّ؟
قالت: لخراب مسجدك. قال سليمان: ما كان الله ليخرّبه وأنا حي أنت الّذي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها فغرسها في حائط له فلم تنبت إلى أن توفّي فجعل النّاس يقولون في رضاهم: لو كان لنا مثل سليمان، وكتبت الشياطين كتابًا فجعلوه في مصلّى سليمان. فقالوا للنّاس: من يدّلكم على ما كان يداوي به فانطلقوا فاستخرجوا ذلك الكتاب فإذا فيه سحر ورقيّ فأنزل الله في هذه الآية ما تفعل الشياطين واليهود على نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}.
{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بالسحر فانّ السحر كفر.
{وَلَاكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} قرأ أهل الكوفة والشام بتخفيف النون ورفع الشياطين وكذلك في الأيمان {وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} {وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
الباقون: بالتشديد ونصب ما بعده، ولكن كلمة لها معنيان نفي الخبر الماضي واثبات الخبر المستقبل، وهي مبنية من ثلاث كلمات أصلها لا كان لا نفي والكاف خطاب وإنّ نصب ونسق فذهبت الهمزة استثقالًا وهي تثقّل وتخفف فإذا ثقلت نصب بها مابعدها من الاسماء كما تنصب بإن الثقيلة فإذا خففها رفعت بها ما ترفع بأنْ الخفيفة.
{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} قال بعضهم: السحر العلم والخطابة دليله قوله: بان السّاحر: أي العالم.
وقال بعضهم: هو التمويه بالشيء حتّى يتوهم المتوّهم إنّه شيء ولا حقيقة له كالسراب غير من رآه وأخلف من رجاه قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}.
{وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} محل ما بعد اتباع التعليم عليه معناه لا يعلمون الذي أنُزل على الملكين أي...... ويجوز أن يكون نصبًا بالاتباع تقديره: واتبعوا ما أنُزل على الملكين، وجعل بعضهم ما جحدًا وحينئذ لا محل له يعني لم ينزل السّحر على الملكين كما زعم اليهود، وإنّما يعلِّمونهم......من ذات أنفسهم والقول الأوّل أصح.
وقرأ ابن عبّاس والحسن والضحّاك ويحيى بن أبي كثير: ملِكين بكسر اللام، وقالوا: هما رجلان ساحران كانا ببابل من الملائكة لا يعلمون النّاس السحر، وفسرهما الحسن فقال: غلجان ببابل وهي بابل عراق وسمّي بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها.
أو أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقى بتعلم السحر منهما فيكفر به ومن سعد بتركه فيبقى على الإيمان فيزداد المعلمان بالتعليم عذابًا ففيه ابتلاء المعلم والمتعلّم والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء كما يشاء فله الأمر والحكم.
وقال الخليل بن أحمد: إنّما سمّيت بابل لأنّ الله تعالى حين أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحًا فحفرتهم من كل أفق إلى بابل فبلبل الله ألسنتهم فلم يدري أحد ما يقول الآخر، ثمّ فرقتهم تلك الرّيح في البلاد وهو لا ينصرف؛ لأنّه اسم موضع معروف.
{هاروت وما روت} اسمان سريانيان في محل الخفض على تفسير الملكين بدلًا منهما إلاّ أنّهما نصبًا لعجمتهما ومعرفتهما وكانت قصتيهما على ما ذكره ابن عبّاس والمفسرون: إنّ الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة وذنوبهم الكثيرة وذلك في زمن إدريس فعيروهم بذلك، ودعتْ عليهم قالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم فهم يعصونك. فقال الله عزّ وجلّ لهم: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لرتكبتم ما ارتكبوه. فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنّا أن نعصيك. قال الله تعالى: اختاروا ملكين من خياركم ثمّ اهبوطهما إلى الأرض. فاختاروا هاروت وما روت وكانا من أصلح الملائكة وأخصهم.
قال الكلبي: قال الله تعالى لهم: اختاروا ثلاثة: عزّا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت. غيَّر اسمهما لما قارفا الذنب كما غير اسم إبليس وعزائيل فركب الله فيهم الشهوة التي ركبها في بني آدم. فاهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين النّاس بالحقّ، ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحقّ والزنا وشرب الخمر وأما عزائيل فأنّه لما وقعت الشهوة في قلبه استقال ربّه، وسأله أن يرفعه إلى السّماء، فأقاله ورفعه، فسجد اربعين سنة، ثمّ رفع رأسه ولم يزل بعد ذلك مطأطئًا رأسه حياءًا من الله عزّ وجلّ.
وأما الآخران فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يغضبان من النّاس يومهما فإذا أمسيًا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء.
قال قتادة: فما مر عليهما شهر حتّى افتتنا قالوا جميعًا وذلك أنهم اختصم عليهما ذات يوم الزهرة، وكانت من أجمل النّساء. قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكانت من أهل فارس، وكانت ملكة في بلدها. فلمّا رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها وانصرفت، ثمّ عادت في اليوم الثاني. ففعلا مثل ذلك. فأبت وقالت: لا إلاّ أن تعبدا ما أعُبد وتُصليا لهذا الصّنم وتقتلا النّفس وتشربا الخمر فقالا: لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله قد نهانا عنها. فانصرفت ثمّ عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها. فراوداها عن نفسها. فعرضت عليهما ما قالت بالأمس. فقالا: الصلاة لغير الله عظيم، وقتل النّفس عظيم وأهون الثلاثة شرب الخمر فانتعشا ووقعا بالمرأة وزنيا. فلما فرغا رآهما أنسان فقتلاه.
قال الربيع بن أنس: سجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكبًا وقال عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه والسّدي والكلبي: إنّها قالت لهما: لن تدركاني حتّى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء. فقالا: بسم الله الأكبر. قالت: فما أنتما تدركاني حتّى تعلمانيه.فقال أحدهما لصاحبه: علّمها. قال: فأنّي أخاف الله.
قال الآخر: فأين رحمة الله فعلماهما ذلك. فتكلّمت به وصعدت إلى السّماء فمسخها الله كوكبًا.
فعلى قول هؤلاء هي الزّهرة بعينها وقيدوها. فقالوا: هي هذه الكوكبة الحمراء واسمها بالفارسيّة ناهيد، وبالنبطية بيذخت يدلّ على صحة هذا القول ما روى جابر عن الطفيل عن علي رضي الله عنه قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى سهيلًا قال: لعن الله سُهيلًا إنّه كان عشارًا باليمن ولعن لله الزُّهرة فإنّها فتنت ملكين.
وقال مجاهد: كنت مع ابن عمر ذات ليلة فقال لي: أرمق بالكوكبة يعني الزّهُرة فإذا طلعت فأيقظني.
فلما طلعت ايقظته فجعل ينظر إليها ويسبّها سبًّا شديدًا. فقلت: رحمك الله سببت نجمًا سامعًا مُطيعًا ماله ليسبّ؟
فقال: إنّ هذه كانت بغيًا. فلقى ملكان منها مالقيا.
وقال ابن عمر إذا رأى الزهُرة قال: لا مرحبًا بها ولا أهلًا وروى أبو عثمان المرندي عن ابن عبّاس: إنّ المرأة التي فتنت بها الملكان مُسخت فهي هذه الكوكبة الحمراء يعني الزهرة قال: وكان يسميها بيذخت. وأنكر الآخرون هذا القول. قالوا: إن الزهرة من الكواكب السبعة السّيارة الّتي جعلها الله تعالى قوامًا للعالم وأقسم بها فقال: {فلا أقسم بالخنّس والجوار الكنّس}. قلنا كانت هذه الّتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى زهرة من جمالها فلمّا بغت مسخها الله تعالى شهابًا فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزهرة ذكر هذه المرأة لموافقة الاسمين فلعنها، وكذلك سهيل العشار ولّما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجمّ ذكره فلعنه ويدلّ عليه ما روى قيس ابن عبّاد عن ابن عبّاس في هذه القصّة:
قال: كانت امرأة فضّلت على النّاس كما فضّلت الزّهرة على سائر الكواكب، ومثله قال كعب الأحبار والله أعلم.
قالوا: فلمّا أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب همّا بالصعود إلى السّماء فلم تُطاوعهما أجنحتهما فعلما ما حلّ بهما فقصدا إدريس النبيّج فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عزّ وجلّ فقالا له: إنّا رأيناك يصعد لك من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا إلى ربّك؟
ففعل ذلك إدريس فخيرّهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فأختارا عذاب الدّنيا إذ علما إنّه ينقطع فهما ببابل يعذّبان.
واختلف العلماء في كيفية عذابهما فقال عبدالله بن مسعود: هما معلّقان بشعورهما إلى قيام السّاعة.
قتادة: كبّلا من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما.
مجاهد: إنّ جبًّا ملئت نارًا فجعلا فيها حضيف معلّقان منكسان في السلاسل.
عمير بن سعد: منكوسان يضربان بسياط الحديد.
ويروى إنّ رجلًا أراد تعلّم السحر فقصد هاروت وماروت فوجدهما معلّقين بأرجلهما مزرقّة عيونهما مسودّة جلودهما ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلاّ قدر أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال: لا إله الاّ الله وقد نهي عن ذكر الله فلمّا سمعا كلامه قالا له: من أنت؟
قال: رجل من النّاس. قالا: ومَنْ أيّ أُمّة أنت؟
قال: من أُمّة محمّد صلى الله عليه وسلم قالا: وقد بعث محمّد؟
قال: نعم قالا: الحمدُ لله وأظهرا الاستبشار. فقال الرجل: ومِمَّ إستبشاركما؟
قالا: لأنّه نبي السّاعة وقد دنا إنقضاء عذابنا. قالوا ومن ثمّ استغفار الملائكة لبني آدم.
وعن الأوزاعي قال: المعنى إنّ جبرئيل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: «يا جبرئيل صف ليّ النّار؟ فقال: إنّ الله أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اصفرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لا يضي لهيبها ولا جمرها، والّذي بعثك بالحقّ لو أنّ ثوبًا من ثياب أهل النّار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعًا ولو أنّ ذَنوَبًا من سرابها صبّت في الأرض جميعًا لقتل من ذاقه، ولو أنّ ذراعًا من السلسة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعًا لذابت وما استقلّت ولو إنّ رجلًا دخل النّار ثمّ أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه فبكى النبيّ صلى الله عليه وسلم وبكى جبرئيل لبكائه وقال: أتبكي يا محمّد وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا، ولم بكيت يا جبريل وأنت الروّح الأمين أمين الله على وحيه؟ قال: أخاف أن أبتلي بما أبتلي هاروت وماروت فهو الّذي منعني عن اتكالي على منزلتي عند ربّي فأكون قد آمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتّى نوديا من السّماء أنً يا جبرئيل ويا محمّد إنّ الله قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما ففضّل محمّد على الأنبياء كفضل جبرائيل على ملائكة السّماء».
{وَمَا يُعَلِّمَانِ} يعني الملكين {مِنْ أَحَدٍ} من صلة لا يعلّمان السحر أحدًا حتّى ينصحاه أولًا وينهياه ويقولا {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} إبتلاء ومحنة.
{فَلا تَكْفُرْ} بتعلم السّحر وأصل الفتنة الاختبار.
تقول العرب: فتنت الذّهب إذا أدخلته النّار لتعرف جودته من رداءته.
وفتنت الشمس الحجر إذا سوّدته.
وإنّما وحدّ الفتنة وهما إثنان؛ لأنّ الفتنة مصدر والمصادر لا تثنّى ولا تجمع كقولهم: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وفي مصحف أُبي: وما يعلّم الملكان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرّات.
قال السّدي وعطاء: فإن أبى إلاّ التعلّم قالا له: إتتِ هذا الرّماد فَبُل عليه فيخرج منه نورٌ ساطع في السّماء فتلك المعرفة وينزل شيء أسود حتّى يدخل مسامعه يشبه الدّخان وذلك غضب الله عزّ وجلّ.
قال مجاهد: إنّ هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة إختلافة واحدة.
وقال يزيد بن الأصم: سُئل المختار: هل يرى اليوم أحدٌ هاروت وماروت؟
قال: أما منذ أئتفكت بابل إئتفاكها الآخر لم يرهما أحد.
قال قتادة: السحر سحران: سحرٌ تعلّمهم الشياطين وسحر يعلّمه هاروت وماروت وهو قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وهو أن يؤخذ كلّ واحد منهما عن صاحبه ويبّغض كل واحد إلى صاحبه.
وفي المرَء أربع قراءات: قرأ الحسن: المرَّ بفتح الميم وتشديد الرّاء جعله عوضًا عن الهمزة.
وقرأ الزهري: المرُءُ بضم الميم والهمزة.
وحكى يعقوب عن جدّه: بكسر الميم والهمزة.
وقرأ الباقون: بفتح الميم والهمزة.
وأمّا كيفية تعليمهما السّحر فقد ورد فيه خبر جامع وهو ما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبّي صلى الله عليه وسلم أنّها قالت: قدمت عليَّ امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السّحر قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تبكي حتّى إنّي لأرحمها بقولي واني لأخاف أنْ تكون قد هلكت، قالت كان لي زوج فغاب عنّي فدخلت على عجوز وشكوت إليها ذلك فقالت: إنْ فعلت ما أمرتك به فأجعله يأتيك فلمّا كان الليل جائتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الأخر فلم يكن حتّى وقفنا على بابل، فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟
فقلت أتعلم السحر.
فقالا: إنّما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي فأبيت فقلت: لا.
قالا: فأذهبي إلى ذلك التنّور فبُولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: فعلت، قلت: نعم. فقالا هل رأيت شيئًا؟
قلت: لم أرَ شيئًا.
فقالا: لم تفعلي ارجعي إلى بلدك ولا تكفري فأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنّور فبُولي فيه.
فذهبت فاقشعّر جلدي وخفت ثمّ رجعت إليهما فقلت قد فعلت. قالا: فما رأيتي؟
قلت: لم أرَ شيئًا.
فقالا: كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك فلا تكفري فإنّك على رأس أمرك. فأبيت. فقالا: اذهبي إلى ذلك التنّور فبُولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسًا مقنعًا بالحديد خرج منّي حتّى ذهب في السّماء وقد غاب عنّي حتّى لم أره فجئتهما فقلت قد فعلت قالا: فما رأيت؟
قلت: رأيت فارسًا مقنّعًا بالحديد خرج منّي فذهب في السّماء حتّى ما أراه. قالا: صدقت ذلك ايمانك خرج منك إذهبي إلى المرأة وقول لها: والله ما أعلم شيئًا وما قال لي شيئًا، قالت بلى، قالا: لن تريدي شيئًا إلاّ كان. خذي هذا القمح فأبذري فبذرت فقلت: إطلعي فطلعت فقلت: إحقلي فحقلت ثمّ قلت إفركي فأفركت ثمّ قلت اطحني فطحنت ثمّ قلت اخبزي فخبزت فلمّا رأيت إنّي لا أريد شيئًا إلاّ كان سقط في يدي وندمت والله يا أُم المؤمنين ما فعلت شيئًا قط ولا أفعله أبدًا.
فأما كيفية جواز تعليم السّحر على الملائكة ووجه الآية وحملها على التأويل الصحيح:
فقال بعضهم: إنّهما كانا لا يتعمّدان تعليم السحر ولكنّهما يصفانه ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه واعلم وعلّم بمعنى واحد وفي هذا حكمة: وهي إنّ سائلًا لو سأل عن الزّنا لوجب أن يوقف عليه ويعلّم أنّه حرام، وكذلك إعلام الملكين النّاس وأمرهما باجتنابه بعد الاعلام والأخبار إنّه كفر حرام فيتعلّم الشقي منهما وفي حلال صفتهما وترك موعظتهما ونصيحتهما ولا يكون على هذا التأويل تعلّم السحر كفرًا وإنّما يكون العمل به كفرًا كما إنّ من عرف الزّنا لم يأثمّ إنّما يأثمّ العامل به، والقول الآخر والأصح: إنّ الله تعالى إمتحن النّاس بالملكين في ذلك الوقت وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلّم السّحر فيكفر بتعلّمه ويؤمن بترك التعلّم، لأنّ السّحر كان قد كثر في كلّ الأمة ويزداد المعلّمان عذابًا بتعليمه فيكون ذلك إبتلاء للمعلّم والمتعلّم ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بني اسرائيل بالنّهر في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} يدلّ عليه قوله{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} وهذان حكاهما الزجّاج واعتمدهما. قال الله تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} أي أحدًا ومن صلة.
{إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أو إلاّ بقضاء الله أو إلاّ بإذن الله أي بمرأى ومسمع أي بعلمه وقضائه ومشيئته وتكوينه والساحر يسحر ولا يكون شيء.
{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} أي السحر وقرأ عبيد بن عمير: ما يُضرهم من أضرّ يضرّ.
{وَلَقَدْ عَلِمُوا} يعني اليهود {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} اختار السّحر.
{مَا لَهُ في الآخرة} أي في الجنّة {مِنْ خَلَاقٍ} من نصيب.
وقال الحسن: ماله في الآخرة من خلاق من دين ولا وجه عند الله.
ابن عبّاس: من قوام، وقيل من خلاص.
قال أميّة: يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم إلاّ السرابيل من قطر وإغلال، أي لا خلاص لهم.
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ} باعوا به حظّ {أَنفُسَهُمْ} حين اختاروا السّحر والكفر على الدين والحق. اهـ.